صـوت الحـق- رئيس التحرير: فراس أبو عيشة الوزني-
حجارةٌ قديمة، وقبةٌ تنعكس عليها أشعة الشمس الساطعة، وثلاث مآذن تعلو تلك الكنيسة، ونوافذ مُقوسة تُحيط بها، وزخارف دائرية على جدرانها الخارجية قبل الداخلية، وأسوار وأشجار زيتون تُحصنها، لتقول رسالةً "هُنا التراث، وهُنا الحكايات، وهُنا بئر يعقوب".
يقع بئر يعقوب شرق مدينة نابلس، ويعتقد أن هذا البئر حفره النبي يعقوب عليه السلام عندما جاء إلى شكيم، حيث اشترى قطعة أرض نَصب فيها خيمة المأوى لهم، وأقام فيها هيكلاً أسماه "إيل"، بمعنى "إله إسرائيل"، وحفر بئراً ليشرب منه وزوجته وأبناؤه وقطيعه، وهو ما أصبح يُعرف بـِ "بئر يعقوب".
وعند هذه البئر التقى السيد المسيح بالمرأة السامرية، أثناء سفره من بيت المقدس إلى الجليل عن طريق السامرة، وكان متعباً، فطلب منها أن تعطيه ماء ليشرب، فأجابت "كيف تطلب مني ماء لتشرب وأنت يهودي وأنا سامرية؟"، ومن المعروف أن اليهود آنذاك لم يكن يتعاملون مع السامريين، ولهذا أصبح يُدعى البئر أيضاً بـِ "بئر السامرية".
ولاحقاً بنت الملكة هيلانة والدة الإمبراطور البيزنطي قسطنطين كنيسة كبيرة فخمة فوق هذا البئر في القرن الرابع للميلاد، طولها 43 متراً، وعرضها 25 متراً، وزين الإمبراطور جوستنيان الكنيسة بالزخارف، لِتُصبح معروفةً بـِ "كنيسة بئر يعقوب".
ويُبين الراهب يوستينوس مامالوس "لم تتعرض الكنيسة لأي هدم أو أذى حتى عهد الراشدين، ولكن هُدمت في العهد الفاطمي عام 1009، وعمَّرها الصليبيون في القرن الثاني عشر للميلاد، عام 1154، وعادت لتُهدم من جديد عام 1187، وذلك بعد خروج الصليبيين من البلاد".
وفي القرن السادس عشر للميلاد، عام 1555، تولت الكنيسة الأرثوذكسية حراستها بأمرٍ من السلطان العثماني، وبُنيت في وقتٍ لاحق على آثار الكنيسة القديمة.
ويُشير إلى أن الكنيسة الحالية بُنيت عام 1908، وتوقف البناء لحوالي 80 عاماً، وذلك بدءاً من الحرب العالمية الأولى 1914، حتى استلام السلطة الوطنية الفلسطينية لمقاليد الحكم 1994، واستكمل البناء لاحقاً.
والراهب مامالوس، 75 عاماً، جاء من جزيرة كركرة "قورفو" اليونانية عام 1960 إلى فلسطين، وكان قد خدم في العديد من الكنائس والأديرة، وخدم كذلك في عدة كنائس في فلسطين عقب وصوله لفلسطين، وفي عام 1980، أصبح يخدم ويعيش في كنيسة بئر يعقوب، وحتى يومنا هذا.
ويؤكد أن كنيسة بئر يعقوب هي مكان مقدس للمسيحيين، ولا قدسية لليهود عليه، رغم أن سيدنا يعقوب عليه السلام حفره، قائلاً "على العكس من ذلك، فإن اليهود يكنون الحقد والبغضاء تجاه المسيحيين".
وتعرضت الكنيسة لهجوم من الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه في عام 1979، وحاولوا السيطرة عليه، وكان الخوري اليوناني الأب "فيلومنس خسابيس" يؤدي صلاته داخل أروقة الكنيسة، فاعتدوا عليه ضرباً، وقُتل بـ36 طعنةً وضربة فأس.
ونقلاً عن المصادر، فإن جريمة قتل الخوري انتهت بالتبرير الإسرائيلي المعروف: "القاتل مجنون".
ويوضح أن الإسرائيليين كانوا ينوون السيطرة على كل المنطقة، حيث هاجموا الكنيسة أكثر من مرة، ودمروا وعاثوا فساداً بها، حتى وصل بهم الأمر لإصدار قرار عسكري يقضي بِمنع إعادة ترميم البناء، ووقف الأعمال به حتى مطلع التسعينيات، ولكن عندما زار الرئيس الراحل ياسر عرفات "أبو عمار" المكان، أعطاه ضوءاً أخضراً للبناء كيفما يشاء داخل أسوار الكنيسة، ومن ذلك الزمان لم يتدخلوا به.
وحسب وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، فإن مدينة نابلس تضم ما مجموعة 266 موقعاً أثرياً رئيساً، وما مجموعة 1015 مَعلماً، ويرتبط بعضها بقصص الرسل والأنبياء، وقسم منها مُدرج في القائمة التمهيدية للتراث العالمي، ومن بينها تل بلاطة، أو مدينة «شكيم» الكنعانية، حيث أن أهمية مدينة "شكيم" تأتي من كون المكان شهد أقدم استيطان في منطقة نابلس (حوالي 4000 سنة قبل الميلاد)، فضلاً عن أنه يُقدم نموذجاً للمدينة الكنعانية المحصنة التي بلغت ذروة قوتها خلال العصر البرونزي الوسيط 1550-1900 ق. م.
ويُشار إلى أن كنيسة بئر يعقوب تتمتع بأهمية في الدين المسيحي، ويقصدها الناس من أنحاء العالم كافة، وتظهر على بوابة الكنيسة الذي تبلغ مساحته 28 متراً مربعاً، صورة تُجسد المسيح والبئر والمرأة السامرية، وهي القصة الأشهر للمكان، وعلى بعد أمتار قليلة نحو الشرق، ترى درجاً هابطاً، يقودك إلى البئر.
وإضافةً إلى ما سبق، فَعند دخولك لبوابة الكنيسة الرئيسية الخارجية، سيكون أمام يسار ناظريك، قبر عليه نُقوش، وهو قبر فارغ يعود إلى راهب الكنيسة الذي ما زال حيَّاً، وهو يوستينوس مامالوس، قائلاً "كلما مررت من أمام قبري أتذكر الحياة والموت".
0 التعليقات:
إرسال تعليق
ضع تعليقاً مُناسباً